فصل: قال البقاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

عن أبي عمرو: إن هذا كان قبل أن يكونوا أنبياء، فكأنه قيل: إن هذا لحسن من حيث إنه صرفهم عن قتله، فهل استمروا عليه أو قام منهم قائم في استنزالهم عنه بعاطفة الرحم وود القرابة؟ فقيل: بل استمروا لأنهم: {قالوا} إعمالًا للحيلة في الوصول إليه، مستفهمين على وجه التعجب لأنه كان أحس منهم الشر، فكان يحذرهم عليه: {يا أبانا ما لك} أيّ أي شيء لك في حال كونك: {لا تأمنا على يوسف و} الحال: {إنا له لناصحون} والنصح دليل الأمانة وسببها، ولهذا قرنا في قوله: {ناصح أمين} [الأعراف: 68] والأمن: سكون النفس إلى انتفاء الشر، وسببه طول الإمهال في الأمر الذي يجوز قطعة بالمكروة فيقع الاغترار بذلك الإمهال من الجهال، وضده الخوف، وهو انزعاج النفس لما يتوقع من الضر؛ والنصح: إخلاص العمل من فساد يتعمد، وضده الغش، وأجمع القراء على حذف حركة الرفع في تأمن وإدغام نونه بعد إسكانه تبعًا للرسم، بعضهم إدغامًا محضًا وبعضهم مع الإشمام، وبعضهم مع الروم، دلالة على نفي سكون قلبه عليه عليهما الصلاة والسلام بأمنه عليه منهم على أبلغ وجه مع أنهم أهل لأن يسكن إليهم بذلك غاية السكون، ولو ظهرت ضمة الرفع عند أحد من القراء فات هذا الإيماء إلى هذه النكتة البديعة.
ولما كان هذا موضع أن يقال: لأيّ غرض يكون ذلك؟ قالوا في جوابه: {أرسله معنا غدًا} إلى مرعانا، إن ترسله معنا: {يرتع} أي نأكل ونشرب في الريف ونتسع في الخصب: {ويلعب} أي نعمل ما تشتهي الأنفس من المباحات تاركين الجد، وهو كل ما فيه كلفة ومشقة، فإن ذلك له سار: {وإنا له لحافظون} أي بليغون في الحفظ؛ قال أبو حيان: وانتصب: {غدًا} على الظرف، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد، وأصل غد غدو، فحذفت لامه- أنتهى.
فكأنه قيل: ماذا قال لهم؟ فقيل: {قال} ما زاد صدورهم توغرًا لأن ما قالوه له هو بحيث يسر به لسرور يوسف عليه الصلاة والسلام به: {إني ليحزنني} أي حزنًا ظاهرًا محققًا- بما أشار إليه إظهار النون وإثباته لام الابتداء: {أن تذهبوا به} أي يتجدد الذهاب به مطلقًا- لأني لا أطيق فراقه- ولا لحظة، وفتح لهم بابًا يحتجون به عند فعل المراد بقوله جامعًا بين مشقتي الباطن، والبلاء- كما قالوا- مؤكل بالمنطق: {وأخاف} أي إذا ذهبتم به واشتغلتم بما ذكرتم: {أن يأكله الذئب} أي هذا النوع كأنه كان كثيرًا بأرضهم: {وأنتم عنه} أي خاصة: {غافلين} أي عريقون في الغفلة لإقبالكم على ما يهمكم من مصالح الرعي؛ والحزن: ألم القلب مما كان من فراق المحبوب، ويعظم إذا مان فراقه إلى ما يبغض؛ والأكل: تقطيع الطعام بالمضغ الذي بعده البلع؛ فكأنه قيل: إن تلقيهم لمثل هذا لعجب، فماذا قالوا؟ فقيل: {قالوا} مجيبين عن الثاني بما يلين الأب لإرساله، مؤكدين ليطيب خاطره، دالين على القسم بلامه: {لئن أكله الذئب ونحن} أي والحال أنا: {عصبة} أي أشداء تعصب بعضنا لبعض؛ وأجابوا القسم بما أغنى عن جواب الشرط: {إنا إذًا} أي إذا كان هذا: {لخاسرون} أي كاملون في الخسارة لأنا إذا ضيعنا أخانا فنحن لما سواه من أموالنا أشد تضييعًا؛ وأعرضوا عن جواب الأول لأنه لا يكون إلا بما يوغر صدره ويعرف منه أنهم من تقديمه في الحب على غاية من الحسد لا توصف، وأقله أن يقولوا: ما وجه الشح بفراقه يومًا والسماح بفراقنا كل يوم، وذلك مما يحول بينهم وبين المراد، فكأنه قيل: إن هذا الكيد عظيم وخطب جسيم، فما فعل أبوهم؟ فقيل: أجابهم إلى سؤلهم فأرسله معهم: {فلما ذهبوا} ملصقين ذهابهم: {به وأجمعوا} أي كلهم، وأجمع كل واحد منهم بأن عزم عزمًا صادقًا؛ والإجماع على الفعل: العزم عليه باجتماع الدواعي كلها: {أن يجعلوه} والجعل: إيجاد ما به يصير الشيء على خلاف ما كان عليه، ونظيره التصيير والعمل: {في غيابت الجب} فعلوا ذلك من غير مانع، ولكن لما كان هذا الجواب في غاية الوضوح لدلالة الحال عليه ترك لأنهم إذا أجمعوا عليه علم أنهم لا مانع لهم منه؛ ثم عطف على هذا الجواب المحذوف لكونه في قوة الملفوظ قوله: {وأوحينا} أي بما لنا من العظمة: {إليه} أي إلى يوسف عليه الصلاة والسلام.
ولما كان في حال النجاة منها بعيدة جدًا، أكد له قوله: {لتنبئنهم} أي لتخبرنهم إخبارًا عظيمًا على وجه يقل وجود مثله في الجلالة: {بأمرهم هذا} أي الذي فعلوه بك: {وهم لا يشعرون}- لعلو شأنك وكبر سلطانك وبعد حالك عن أوهامهم، ولطول العهد المبدل للهيئات المغير للصور والأشكال- أنك يوسف- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن وابن جريج على ما نقله الرماني؛ والشعور: إدراك الشيء مثل الشعرة في الدقة، ومنه المشاعر في البدن، وكان يوسف عليه الصلاة والسلام حين ألقوه في الجب ابن اثنتي عشرة سنة- قاله الحسن، قالوا: وتصديق هذا أنهم لما دخلوا عليه ممتارين دعا بالصواع فرضعه على يديه ثم نقره فطن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، وكان أبوكم يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم: أكله الذئب. اهـ.

.قال الفخر:

{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}
اعلم أن هذا الكلام يدل على أن يعقوب عليه السلام كان يخافهم على يوسف ولولا ذلك وإلا لما قالوا هذا القول.
واعلم أنهم لما أحكموا العزم ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه، وكانت عادتهم أن يغيبوا عنه مدة إلى الرعي فسألوه أن يرسله معهم وقد كان عليه السلام يحب تطييب قلب يوسف فاغتر بقولهم وأرسله معهم.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال صاحب الكشاف: {لاَ تَأْمَنَّا} قرئ بإظهار النونين وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام، والمعنى لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به.
المسألة الثانية:
في: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} خمس قراآت:
القراءة الأولى: قرأ ابن كثير: بالنون، وبكسر عين {نرتع} من الارتعاء، {ويلعب} بالياء والارتعاء افتعال من رعيت، يقال: رعت الماشية الكلأ ترعاه رعيًا إذا أكلته، وقوله: {نرتع} الارتعاء للإبل والمواشي، وقد أضافوه إلى أنفسهم، لأن المعنى نرتع إبلنا، ثم نسبوه إلى أنفسهم لأنهم هم السبب في ذلك الرعي، والحاصل أنهم أضافوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم لأنهم بالغون كاملون وأضافوا اللعب إلى يوسف لصغره.
القراءة الثانية: قرأ نافع: كلاهما بالياء وكسر العين من {يرتع} أضاف الارتعاء إلى يوسف بمعنى أنه يباشر رعي الإبل ليتدرب بذلك فمرة يرتع ومرة يلعب كفعل الصبيان.
القراءة الثالثة: قرأ أبو عمرو وابن عامر: {نرتع} بالنون وجزم العين ومثله نلعب.
قال ابن الأعرابي: الرتع الأكل بشره، وقيل: إنه الخصب، وقيل: المراد من اللعب الإقدام على المباحات وهذا يوصف به الإنسان، وأما نلعب فروي أنه قيل لأبي عمرو: كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ فقال لم يكونوا يومئذ أنبياء، وأيضًا جاز أن يكون المراد من اللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر: «فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك» وأيضًا كان لعبهم الاستباق، والغرض منه تعلم المحاربة والمقاتلة مع الكفار، والدليل عليه قولهم: إنا ذهبنا نستبق وإنما سموه لعبًا لأنه في صورته.
القراءة الرابعة: قرأ أهل الكوفة: كليهما بالياء وسكون العين، ومعناه إسناد الرتع واللعب إلى يوسف عليه السلام.
القراءة الخامسة: {غَدًا يَرْتَعْ} بالياء: {وَنَلْعَبُ} بالنون وهذا بعيد، لأنهم إنما سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا باللعب، والله أعلم.
{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}
اعلم أنهم لما طلبوا منه أن يرسل يوسف معهم اعتذر إليهم بشيئين: أحدهما: أن ذهابهم به ومفارقتهم إياه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة.
والثاني: خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم أو لعبهم لقلة اهتمامهم به.
قيل: إنه رأى في النوم أن الذئب شد على يوسف، فكان يحذره فمن هذا ذكر ذلك، وكأنه لقنهم الحجة، وفي أمثالهم البلاء موكل بالمنطق.
وقيل: الذئاب كانت في أراضيهم كثيرة، وقرئ: {الذئب} بالهمز على الأصل وبالتفخيف.
وقيل: اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة، فلما ذكر يعقوب عليه السلام هذا الكلام أجابوا بقولهم: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذَا لخاسرون} وفيه سؤالات:
السؤال الأول: ما فائدة اللام في قوله: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب}.
والجواب من وجهين: الأول: أن كلمة إن تفيد كون الشرط مستلزمًا للجزاء، أي إن وقعت هذه الواقعة فنحن خاسرون، فهذه اللام دخلت لتأكيد هذا الاستلزام.
الثاني: قال صاحب الكشاف هذه اللام تدل على إضمار القسم تقديره: والله لئن أكله الذئب لكنا خاسرين.
السؤال الثاني: ما فائدة الواو في قوله: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}.
الجواب: أنها واو الحال حلفوا لئن حصل ما خافه من خطف الذئب أخاهم من بينهم وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب إنهم إذًا لقوم خاسرون.
السؤال الثالث: ما المراد من قولهم: {إِنَّا إِذَا لخاسرون}.
الجواب فيه وجوه: الأول: خاسرون أي هالكون ضعفًا وعجزًا، ونظيره قوله تعالى: {لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون} [المؤمنون: 34] أي لعاجزون: الثاني: أنهم يكونون مستحقين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار وأن يقال خسرهم الله تعالى ودمرهم حين أكل الذئب أخاهم وهم حاضرون.
الثالث: المعنى أنا إن لم نقدر على حفظ أخينا فقد هلكت مواشينا وخسرناها.
الرابع: أنهم كانوا قد أتعبوا أنفسهم في خدمة أبيهم واجتهدوا في القيام بمهماته وإنما تحملوا تلك المتاعب ليفوزوا منه بالدعاء والثناء فقالوا: لو قصرنا في هذه الخدمة فقد أحبطنا كل تلك الأعمال وخسرنا كل ما صدر منا من أنواع الخدمة.
السؤال الرابع: أن يعقوب عليه السلام اعتذر بعذرين فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر؟
والجواب: أن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأول، وهو شدة حبه له فلما سمعوا ذكر ذلك المعنى تغافلوا عنه.
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)}
اعلم أنه لابد من الإضمار في هذه الآية في موضعين: الأول: أن تقدير الآية قالوا: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذَا لخاسرون} فأذن له وأرسله معهم ثم يتصل به قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} والثاني: أنه لابد لقوله: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ في غَيَابَةِ الجب} من جواب إذ جواب لما غير مذكور وتقديره فجعلوه فيها، وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلًا عليه وههنا كذلك.
قال السدي: إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة الشديدة، وجعل هذا الأخ يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه ولا يرى فيهم رحيمًا فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يقول يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك، فقال يهودا أليس قد أعطيتموني موثقًا أن لا تقتلوه فانطلقوا به إلى الجب يدلونه فيه وهو متعلق بشفير البئر فنزعوا قميصه، وكان غرضهم أن يلطخوه بالدم ويعرضوه على يعقوب، فقال لهم ردوا علي قميصي لأتوارى به، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبًا لتؤنسك، ثم دلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة فقام بها وهو يبكي فنادوه فظن أنه رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فقام يهودا فمنعهم وكان يهودا يأتيه بالطعام، وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال يا شاهدًا غير غائب.
ويا قريبًا غير بعيد.
ويا غالبًا غير مغلوب.
اجعل لي من أمري فرجًا ومخرجًا، وروي أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار جرد عن ثيابه فجاءه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحق، وإسحق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف عليه السلام فجاء جبريل عليه السلام فأخرجه وألبسه إياه.
ثم قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} قولان: أحدهما: أن المراد منه الوحي والنبوة والرسالة وهذا قول طائفة عظيمة من المحققين، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام هل كان في ذلك الوقت بالغًا أو كان صبيًا قال بعضهم: إنه كان في ذلك الوقت بالغًا وكان سنه سبع عشرة سنة، وقال آخرون: إنه كان صغيرًا إلا أن الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحًا لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عليه السلام.
والقول الثاني: إن المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى} [القصص: 7] وقوله: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] والأول: لأن الظاهر من الوحي ذلك.
فإن قيل: كيف يجعله نبيًا في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟
قلنا: لا يمتنع أن يشرفه بالوحي والتنزيل ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وتسكين نفسه وإزالة الغم والوحشة عن قلبه.
المسألة الثانية:
في قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} قولان: الأول: المراد أن الله تعالى أوحى إلى يوسف إنك لتخبرن إخوتك بصنيعهم بعد هذا اليوم وهم لا يشعرون في ذلك الوقت إنك يوسف، والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصير مستوليًا عليهم ويصيرون تحت قهره وقدرته.
وروي أنهم حين دخلوا عليه لطلب الحنطة وعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فظن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه في البئر وقلتم لأبيكم أكله الذئب.
والثاني: أن المراد إنا أوحينا إلى يوسف عليه السلام في البئر بأنك تنبئ إخوتك بهذه الأعمال، وهم ما كانوا يشعرون بنزول الوحي عليه، والفائدة في إخفاء نزول ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.
المسألة الثالثة:
إذا حملنا قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} على التفسير الأول، كان هذا أمرًا من الله تعالى نحو يوسف في أن يستر نفسه عن أبيه وأن لا يخبره بأحوال نفسه، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه طول تلك المدة، مع علمه بوجد أبيه به خوفًا من مخالفة أمر الله تعالى، وصبر على تجرع تلك المرارة، فكان الله سبحانه وتعالى قد قضى على يعقوب عليه السلام أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى الله تعالى، وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة. والله أعلم. اهـ.